فصل: وفاة السلطان أبي العباس وولاية ابنه أبي فارس عزوز

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  وفاة الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية

كان السلطان لما سار إلى فتح تونس ولى على بجاية ابنه محمداً كما مر وأقام له حاجباً وأوصاه بالرجوع إلى محمد بن أبي مهدي زعيم البلد وقائد الأسطول المتقدم على أهل الشطارة والرجولة من رجل البلد ورماتهم فقام هذا الأمير أبو عبد الله في منصب الملك ببجاية أحسن قيام واصطنع ابن أبي مهدي أحسن اصطناع فكان يجري في قصوره وأغراضه ويكفيه مهمة في سلطانه ويراقب مرضاة السلطان في أحواله والأمير يعرف له ذلك ويوفيه حقه إلى أن أدركته المنية أوائل خمس وثمانين فتوفي على فراشة آنس ما كان سرباً وآمن روعاً مشيعاً من رضى أبيه ورعيته بما يفتح له أبواب الرضى من ربه وبلغ نعيه إلى أبيه بتونس فبادر بإنفاذ العهد لابنه أبي العباس أحمد بولاية بجاية مكان أبيه وجعل كفالة أمره لابن أبي مهدي مستبداً عليه واستقامت الأمور على ذلك‏.‏حركة السلطان إلى الزاب كنت أنتهي بتأليف الكتاب إلى ارتجاع توزر من يد ابن يملول وأنا يومئذ مقيم بتونس ثم ركبت البحر منتصف أربع وثمانين إلى بلاد الشرق لقضاء الفرض ونزلت بالإسكندرية ثم بمصر وصارت أخبار المغرب تبلغنا على ألسنة الواردين فمن أول ما بلغنا وفاة هذا الأمير ابن السلطان ببجاية سنة خمس وثمانين‏.‏ثم بلغنا بعدها حركة السلطان إلى الزاب سنة ست وثمانين وذلك أن أحمد بن مزني صاحب بسكرة والزاب لعهده كان مضطرب الطاعة يجير على السلطان ويمنع في أكثر السنين المغارم معولا على مدافعة العرب الذين ملكوا ضواحي الزاب والتلول دونه وأكثر وثوقه في ذلك بيعقوب ابن علي وقومه الدواودة‏.‏وقد مر طرف من أخباره في ذلك مثبوتاً في أخبار الدولة‏.‏وكاز ابن يملول قد أوى إلى بلده واتخذ وكراً في وجوه وأجلب على توزر مراراً برأيه ومعونته فأحفظ ذلك السلطان ونبه له عزائمه‏.‏ثم نهض سنة ست وثمانين يريد الزاب بعد أن جمع الجموع واحتشد الجنود واستألف العرب من بني سليم فصاروا معه وأوعبوا ومر على فحص تبسة‏.‏ثم خرج من طرف جبل أوراس إلى بلد تهودا من أعمال الزاب واعصوصب الدواودة ومن تبعهم من قبائل رياح على المدافعة دون بسكرة والزاب غيرة من بني سليم أن يطرقوا أوطانهم أو يردوا مراعيهم إلا بني سباع بن شبل من الدواودة فإنهم تحيزوا إلى السلطان‏.‏واستنفر ابن مزني حماة وطنه ورجالة قومه من الأتبج فغصت بسكرة بجموعهم وتوافت الفريقان وناوشهم السلطان القتال أياماً وهو يراسل يعقوب بن علي ويستحثه لما كان يطمعه به من المظاهرة على ابن مزني ويعقوب يخادعه بانحراف قومه عنه وائتلافهم على ابن مزني ويرغبه في قبول طاعته ووضع أوزار الحرب مع رياح حتى تتمكن له فرصة أخرى فتقبل السلطان نصيحته في ذلك وأغضى لابن مزني ولرياح عنها وقبل طاعته وضريبته المعلومة وانكفأ راجعاً ومر بجبل أوراس ثم إلى قسطنطينة فأراح بها ثم ارتحل إلى تونس فوصل إليها منتصف ست وثمانين‏.‏

  حركة السلطان إلى قابس

كان السلطان قد فتح مدينة قابس سنة إحدى وثمانين وانتظمها في أعماله وشرد عنها بني مكي فذهبوا إلى نواحي طرابلس وهلك كبيرهم عبد الملك وعبد الرحمن ابن أخيه أحمد وذهب ابنه يحيى إلى الحج وأقام عبد الوهاب بزنزور ثم رجع إلى جبال قابس يحاول على ملكها‏.‏واستتب له ذلك بوثوب جماعة من أهل البلد بعاملها يوسف الأبار من صنائع السلطان لقبح إيالته وسوء سيرته فداخلوا جماعة من شيعة بني مكي في ضواحي قابس وقراها وواعدوهم فجاءوا لميعادهم وعبد الوهاب معهم واقتحموا باب البلد وقتلوا البواب‏.‏ثم قصدوا ابن الأبار فقتلوه في مسكنه سنة اثنتين وثمانين‏.‏وملك عبد الوهاب البلد واستقل بها كما كان سلفه‏.‏وجاء أخوه يحيى من المشرق فأجلب عليه مراراً يروم ملك البلد منه فلم يتهيأ له ذلك ونزل على صاحب الحامة وأقام عنده يحاول أمر البلد منها فبعث عبد الوهاب إلى صاحب الحامة وبذل له المال على أن يمكنه منه فبعث إليه به فاعتقله بقصر العروسيين وأقام يراوغ السلطان عن الطاعة ويبذل ماله في أعراب الضاحية من دباب وغيرهم للمدافعة عنه ومنع الضريبة التي كانوا يؤدونها للسلطان أيام طاعتهم والسلطان مشغول عنهم بمهمه فلما فرغ من شواغله بإفريقية والزاب نهض إليه سنة تسع وثمانين بعد أن اعترض عساكره واستألف من العرب أولياءه وسرب فيهم عطاءه‏.‏ونزل على قابس وقد استعد لها وجمع الآلات لحصارها فاكتسح نواحيها وجثم عليهما عساكره يقاتلها ويقطع نخيلها حتى أعاد الكثير من الفرفهة‏.‏براحاً وموج الهواء في ساحتها فصح بعد أن كانوا يستوخمونه لاختفائه بين الشجر وفي متكاثف الظلال وما يلحقه بذلك من التعفن فذهب عنها ما كان يعهد فيها من ذلك الوخم رحمه من الله أصابتهم من عذاب هذا السلطان وربما صحت الأجسام بالعلل‏.‏ولما اشتد بهم الحصار وضاق المخنق وظن ابن مكي أنه قد أحيط به استعتب للسلطان واستأمن فأعتبه وأمنه ورهن ابنه على الطاعة وأداء الضريبة وأفرج عنه السلطان وانكفأ راجعاً إلى تونس واستقام ابن مكي حتى كان من تغلب عمه يحيى عليه ما نذكره‏.‏كان العرب أيام ولاية المنتصر بتوزر قد حمدوا سيرته وأصفقوا على محبته والتشيع له فلما رجع السلطان عن قابس رغبوا إليه في طريقهم أن يولي المنتصر على بلاد الجريد كما كان ويرفد على عمله بتوزر‏.‏وتولى ذلك بنو مهلهل وأركبوا نساءهم الظعن في الهوادج واعترضوا بهن السلطات سافرات مولولات دخلاء عليه في إعاجة المنتصر إلى توزر لما لهم فيه من المصالح فقبل السلطان وسيلتهن وأعاده إلى توزر ونقل ابنه زكرياء إلى نفطة وأضاف إليها عمل نفزاوة فسار إليها واستعمله وأظهر من الكفاية والاضطلاع ما تحدث به الناس عنه وكانت ولايته أول سنة تسعين‏.‏

  فتنه الأمير إبراهيم صاحب قسطنطينة مع الدواودة

ووفاة يعقوب بن علي ثم وفاة الأمير إبراهيم إثرها كان للدواودة بقسطنطينة عطاء معلوم مرتب على مراتبهم زيادة لما بأيديهم البلاد في التلول والزاب بأقطاع السلطان وضاق نطاق الدولة لهذه العصور فضاقت الجباية وصار العرب يزرعون الأراضي في بلادهم بالتلول ولا يحتسبون بمغارمها فيضيق الدخل ويمنعهم السلطان العطاء من أجل ذلك فتفسد طاعتهم وتنطلق بالعيث والنهب أيديهم‏.‏ولما رجع الأمير إبراهيم من حركته في ركاب أبيه إلى قابس وكان منذ أعوام ينقص من عطائهم لذلك ويعللهم بالمواعيد فلما قفل من قابس اجتمعوا إليه وطلبوا منه عطاءهم فتعلل عليهم وجاءه يعقوب بن علي مرجعه من الحج وأشار عليه بإنصاف العرب من مطالبهم فأعرض عنه وارتحل لبعض مذاهبه وتركه ونادى في العرب بالفتنة معه يروم استئلاف أعدائه فأجابه الكثير من أولاد سباع بن شبل وأولاد سباع بن يحيى وباديتهم من ذؤبان رياح وخرج يعقوب من التل فنزل في نقاوس فأقام بها وانطلقت أيدي قومه على تلول قسطنطينة بالنهب وانتساف الزروع حتى اكتسحوا عامتها ولحقوا به مالئي اليد مثقلي الظهر‏.‏ثم طرقه المرض فهلك سنة تسعين ونقلوا شلوه إلى بسكرة فدفنوه بها وقام مكانه في قومه ابنه محمد‏.‏واستمر على العصيان وصعد إلى التل في منتصف إحدى وتسعين واستألف الأمير إبراهيم أعداءه من الدواودة وأحلافهم من البادية وجنح إليه أبو ستة بن عمر أخو يعقوب بن علي بمن معه من أولاد عائشة أم عمر وخالفه أخوه صميت إلى محمد بن يعقوب‏.‏ثم تحاربوا مع الأمير إبراهيم فهزموه وقتل أبو ستة‏.‏ثم جمع السلطان لحربهم ودفعهم عن التلول ومنعهم من المصيف عامهم ذلك‏.‏وانحدروا إلى مشاتيهم وعجزوا بعدها عن الصعود إلى التلول وقضوا مصيفهم عامهم ذلك بالزاب وانحدروا منه إلى المشاتي فلما رجعوا من مشاتيهم وقد فقدوا الميرة انطلقت أيديهم على نواحي الزاب فانتسفوا زروعه وكاد أن يفسد ما بينهم وبين ابن مزني مظاهرهم على تلك الفتنة‏.‏ثم ارتحلوا صاعدين إلى التلول وقد جمع الأمير إبراهيم لدفاعهم عنه‏.‏وبينما هو في ذلك ألم به طائف من المرض فتوفي سنة اثنتين وتسعين وافترقت جموعه‏.‏وأغذ محمد بن يوسف السير إلى نواحي قسطنطينة فاحتل بها مظاهراً للطاعة متبرياً من الخلاف وناس في أهل البلاد بالأمان والعمارة فصلحت أحوال الرعايا والسابلة‏.‏وبعثوا إلى السلطان بتونس مستأمنين مستعتبين فأمنهم وأعتبهم وأقام بقسطنطينة مكان ابنه إبراهيم ابنه وبعث من حضرته محمد بن مولاه بشير لكفالته والقيام بدولته فقام بأمرها وصلحت الأحوال‏.‏منازلة نصارى الفرنج للمهدية كانت أمة الفرنج وراء البحر الرومي في الشمال قد صار لهم التغلب ودولة بعد انقراض دولة الروم فملكوا جزائره مثل‏:‏ دانية وسردانية وميورقة وصقلية وملأت أساطيلهم فضاءه ثم تخطوا إلى سواحل الشام وبيت المقدس فملكوها وعادت لهم سورة التغلب في هذا البحر بعد أن كان سورة المسلمين فيه لا يتقاوم إلى آخر دولة الموحدين بكثرة أساطيله ومران راكبيه فغلبهم الفرنج وعادت السورة لهم وزاحمتهم أساطيل المغرب لعهد بني مرين أياماً‏.‏ثم فشل ريح الفرنجة واختل مركز دولتهم بافرنسة وافترقت طوائف في أهل برشلونة وجنوة والبنادقة وغيرهم من أمم الفرنجة النصرانية وأصبحوا دولاً متعددة فتنبهت عزائم كثير من المسلمين بسواحل إفريقة لغزو بلادهم وشرع في ذلك أهل بجاية منذ ثلاثين سنة فيجمع النفراء والطائفة من غزاة البحر ويصنعون الأسطول ويتخيرون له الأبطال الرجال ثم يركبونه إلى سواحل الفرنجة وجزائرهم على حين غفلة فيتخطفون منها ما قدروا عليه ويصاعدون ما يلقون من أساطيل الكفرة فيظفرون بها غالباً ويعودون بالغنائم والسبي والأسرى حتى امتلأت سواحل الثغور الغربية من بجاية بأسراهم تضج طرق البلد بصخب السلاسل والأغلال عندما ينتشرون في حاجاتهم ويغالون في فدائهم بما يتعذر معه أو يكاد فشق ذلك على أمم الفرنجة وملأ قلوبهم ذلا وحسرة وعجزوا عن الثأر به وصرخوا على البعد بالشكوى إلى السلطان بإفرنجة فصم عن سماعها وتطارحوا بثهم وثكلهم فيما بينهم وتداعوا لنزال المسلمين والأخذ بالثأر منهم‏.‏وبلغ خبر استعدادهم إلى السلطان فسرح ابنه أبا فارس يستنفر أهل النواحي ويكون رصداً للأسطول هنالك واجتمعت أساطيل جنوة وبرشلونة ومن وراءهم أو مجاورهم من أمم النصرانية وأقلعوا من جنوة فحطوا بمرسى المهدية منتصف اثنتين وتسعين وطرقوها على حين غفلة وهي على طرف من البر داخل في البحر كأنه لسان دالع فأرسوا عندها وضربوا عند أول الطرف سوراً من الخشب بينه وبين البر حتى أصاروا المعقل في حكمهم وعالوا عليه بالأبراج وشحنوها بالمقاتلة ليتمكنوا من قتال البلد ومن يأتيهم من مدد المسلمين وصنعوا برجاً من الخشب من جهة البحر يشرف على أسوار المعقل لتعظم نكايتهم وتحصن أهل البلد وبلغ الخبرإلى السلطان فأهمه أمرها وسرح العساكر تترى إلى مظاهرتهم‏.‏ثم خرج أخوه الأمير أبو يحيى زكرياء وسائر بنيه فيمن حضره من العساكر فانطلقوا لجهاد هذا العدو واستنفروا المقاتلة من الأعراب وغيرهم فاجتمعت بساحتها أمم وألحوا على الفرنجة بالقتال ونضح السهام حتى أحجروهم في سورهم‏.‏وبرز الفرنجة للقتال فكان بينهم وبين المسلمين جولة جلى فيها أبناء السلطان وكاد الأمير أبو فارس منهم أن يتورى لو لا حماية الله التي وقته‏.‏ثم تداركت عليهم الحجارة والسهام والنفط من سور البلد فاحترق البرج المطل عليها من جهة البحر فوجموا لحريقه‏.‏ثم ركبوا من الغد أسطولهم وأقلعوا إلى بلادهم وخرج أهل المهدية يتباشرون بالنجاة ويتنادون بشكر الأمراء على ما اعتمدوه في نصرهم ‏"‏ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال ‏"‏‏.‏وأمر الأمير أبو يحيى برم ما تثلم من أسوارها ولم ما تشعب منها وقفل إلى تونس وقد أنجح الله قصدهم وأظهرهم على عدوهم‏.‏انتقاض قفصة وحصارها كان السلطان أبو العباس قد ولي على قفصة عندما ملكها ابنه الأمير أبا بكر وأقام في خدمته من رجال دولتهم عبد الله التريكي من موالي جدهم السلطان أبي يحيى فانتظم به أمره وأقام بها حولا‏.‏ثم تجافى عن إمارتها ولحق بأبيه بتونس سنة اثنتين وثمانين فجعل السلطان أمر قفصة لعبد الله التريكي وولاه عليها ثقة بغنائه واضطلاعه‏.‏ولم يزل والياً بها إلى أن هلك سنة أربع وتسعين وولى السلطان مكانه ابنه محمداً وكان له أخوة أصاغر أبناء علات فنافسوه في تلك الرتبة وحسدوه عليها وأغراهم به محمد الدنيدون من قرابة أحمد بن العابد كان ينظر في قسمة الماء بالبلد وكان فيها عدلا معقلا فلم تطرقه النكبة كما طرقت قومه وأبقاه السلطان بالبلد فأغرى هؤلاء الأخوة بأخيهم ووثبوا به فاعتقلوه وأظهروا العصيان‏.‏ثم حمله أعيان البلد على البراءة من بني عبد الله التريكي استرابة بهم أن يراجعوا طاعة السلطان فتوثب بهم وأخرجهم واستصفاهم واستقل برياسة البلد كما كان قومه والسلطان في خلال ذلك يرعد ويبرق ويواصل الأعذار والإنذار وهم قد لجوا في طغيانهم‏.‏ثم جمع جنوده واحتشد واستألف الأعراب ووفر لهم الأعطيات‏.‏ونهض إليها حتى نزل بساحتها منتصف خمس وتسعين‏.‏وقد استعدوا وتحصنوا فألح عليهم القتال وأذاقهم النكال وقطع عنهم الميرة فضيق مخنقهم‏.‏ثم عدا على نخلهم فقطعها حتى صرع جذوعها وفسح المجال بين لفافها‏.‏ولما اشتد بهم الحصار وضاق عليهم المخنق خرج شيخهم الدنيدن إلى السلطان يعقد معه صلحاً على بلده وقومه فغدر به وحبسه رجاء أن يملك بذلك البلد‏.‏وكان بعض بني العابد اسمه عمر بن الحسن قد انتبذ عن قفصة أيام نكبتهم وأبعد في المغرب ثم رجع ونزل بأطراف الزاب‏.‏ولما استقل الدنيدن بقفصة قدم عليه فأقام معه أياماً‏.‏ثم استراب به وتقبض عليه وحبسه‏.‏فلما غمر به السلطان اجتمعت عليه المشيخة وعقدوا له الإمرة وبعثوا إلى العرب يسترحمونهم ويعطفونهم على ذخيرتهم فيهم‏.‏وسربوا إليهم الأموال فتصدى للدفاع عنهم صولة بن خالد بن حمزة أمير أولاد أبي الليل‏.‏وزحف إلى السلطان بمعسكره من ظاهر البلد وكان أولياءه من العرب قد ابعدوا عنه في الجهات لانتجاع إبلهم فما راعه إلا إطلاق صولة براياته في قومه فأجفل واتبعوه‏.‏وما زال يكر عليهم في بنيه وخواصه حتى ردهم على أعقابهم‏.‏وأغد السير إلى تونس وهم في اتباعه ولم يظفروا منه بعقال إلا ما كان من طعن القنا ووقع السيوف حتى وصل إلى حضرته‏.‏ثم ندم صولة على ما كان منه وأرسل السلطان بطاعته فلم يقبله وانحدر إلى مشاتيه سنة ست وتسعين‏.‏واستدعى ابن يملول من عش نفاقه ببسكرة فخف إليه ودفعه إليها تربه في الغي أحمد بن مزني صاحب الزاب‏.‏ووصل ابن يملول إلى صولة فأغراه بحصار توزر ونزل معه عليها بقومه فجلى الأمير المنتصر في دفاعهم والامتناع عليهم حتى يئسوا واضطربت آراؤهم وأفرجوا عنها مفترقين‏.‏وصعد صولة إلى التل للمصيف به وعاود الرغبة من السلطان في قبول طاعته‏.‏وكان محمد الدنيدن لما أجفل السلطان عن قفصة تركه بتلك الناحية فلما وصل إلى تونس راسل أهل قفصة في الرجوع إليهم فأجابه بعض أشياعه ودخل البلد فنذر به عمر بن العابد وكبسه بمكانه الذي نزل به وقتله واستبد بمشيخة قفصة‏.‏وخشي أهل قفصة من عائلة السلطان وسوء مغبة العصيان فبعثوا إلى السلطان بطاعتهم وشرط عليهم نزول عامله عندهم وهذا آخر ما بلغنا عنهم ولم يبلغنا أنه عقد لهم ولا لصولة أمراً والله يصرف الأمور بحكمته‏.‏

  ولاية عمر ابن السلطان على صفاقس واستيلائه منها

على قابس وجزيرة جربة هذا الأمير عمر ابن السلطان هو شقيق إبراهيم الذي كان أميراً بقسطنطينة وكان في كفالة أخيه إبراهيم فلما توفي كما مر لحق بالسلطان أبيه وأقام عنه‏.‏ولما كان من وفاة أبي بكر بن ثابت شيخ طرابلس ما قدمناه واضطراب قومه من بعده ونزع قائدهم قاسم بن خلف إلى السلطان فبعث معه ابنه عمر هذا سنة اثنتين وتسعين لحصار طرابلس وأقام عليها حولا كريتا يحاصرها ويمنع الأقوات عنها حتى ضجروا وضجر من طول المقامة فدافعوه بالضريبة وانكفأ راجعاً إلى أبيه سنة خمس وتسعين‏.‏ووافاه جاثماً على قفصة عندما انتقضوا عليه‏.‏وقد كان مر في طريقه على جربة وأراد الدخول إليها فمنعه عامل أبيه بها من الموالي المعلوجي فأنف من ذلك وشكاه إلى أبيه فولاه على صفاقس‏.‏ووعده بولاية جربة فسار هو إلى صفاقس وأجاز البحر إلى جزيرة جربة وانضم إليه جميع من بها من القبائل‏.‏وامتنع العلج منصور العامل بحصنها المسمى بالقشتيل بلسان الفرنج حتى كاتب السلطان وأمره بتمكين ابنه من الحصن والإفراج له عن الجزيرة أجمع فاستبد بها ثم إن الأمير عمر سما إلى ملك قابس فداخل أهل الحافة جارتها المجلبة عليها على الأيام في ذلك وأجابوه وساروا معه بجموعه سنة ست وتسعين فبيتها وملكها‏.‏وقبض على رئيسها يحيى بن عبد الملك بن مكي فضرب عنقه وانقرض أمر بني مكي من قابس واستقل بها الأمير عمر مضافة إلى ما كان بيده والله وارث الأمور‏.‏

  وفاة السلطان أبي العباس وولاية ابنه أبي فارس عزوز

كان السلطان أبو العباس قد أزمن به وجع النقرس حتى كان في غالب أسفاره يحمل على البغال في المحفة‏.‏ثم اشتد به آخر عمره وأشرف في سنة ست وتسعين على الهلكة‏.‏وكان أخوه زكرياء رديفه في الملك والمرشح بعده للأمر وابنه محمد والياً في بونة موضع إمارته من قبل‏.‏وكان للسلطان ولد كثيرون يتطاولون إلى مكان أبيهم ويغصون بعمهم زكرياء ويخشون غائلته بعد أبيهم‏.‏فلما قارب السلطان منيته اشتد جزعهم وإشفاقهم من عمهم‏.‏وبعث السلطان كبيرهم أبا بكر بعهده على قسطنطينة فسار إليها بين أيدي موته واعصوصب الباقون على كبيرهم بعده أبي فارس عزوز فقبضوا على عمهم زكرياء وقد دخل يعود أخاه وأودعوه في بعض الحجر ووكلوا به‏.‏وهلك السلطان لثلاث بعدها فبايعوا أخاهم أبا فارس رابع شعبان سنة ست وتسعين وجاء أهل البلد إلى بيعته أفواجاً من الأعيان والكافة فتمت بيعته وأمر بنقل ما في بيوت عمه من الأموال والذخيرة إلى قصره حتى استوعبها وضيق عليه في محبسه وقام بتدبير ملكه وسياسة سلطانه‏.‏وولى بعض إخوانه على منابر عمله بإفريقية فبعث أحدهم على سوسة والثاني على المهدية وردف أخاه إسماعيل في ملكه بتونس وأحل الباقين محل الشورى والمفاوضة‏.‏وبلغ الخبرإلى أخيه المنتصر بتوزر فاضطرب أمره ولحق بالحامة فأقام بها‏.‏وكذلك أخوه زكرياء بنفطة فلحق بجبال نفزاوة‏.‏وكان أخوه أبو بكر لما سار إلى قسطنطينة لولاية أبيه قبل وفاته مر ببونة فلقيه صاحبها الأمير محمد ابن عمه زكرياء بما شاء من أنواع الكرامة والمبرة ووافى قسطنطينة فطلب منه القائمون بها كتاب السلطان بعهده عليها فأقرأهم إياه وفتحوا له الأبواب فدخل واستولى على أمرها‏.‏وكان خالصة السلطان محمد بن أبي هلال قد بعثه السلطان قبيل موته إلى السلطان أبي فارس عبد العزيز المتولي بالمغرب بعد وفاة أبيه السلطان أبي العباس بن أبي سالم في صفر من شهور السنة وحمله من الهدايا والتحف ما يليق بأمثالهما فسار فلما انتهى إلى ميلة بلغه الخبر بوفاة السلطان مرسله وأوعز إليه الأمير أبو بكر من قسطنطينة بالرجوع إليه فرجع بهديته واستقر عنده هنالك‏.‏هذا آخر ما بلغنا من الأخبار الصحيحة عنهم لهذه بني مزني

  الخبر عن بني مزني أمراء بسكرة وما إليها من الزاب هذا البلد بسكرة

هو قاعدة وطن الزاب لهذا العهد وحده من لدن قصر الدوسن بالغرب إلى قصور تنومة وبادس في الشرق يفصل بينه وبين البسيط الذي يسمونه الحضنة جبل جاثم من المغرب إلى المشرق ذو ثنايا تفضي إليه من تلك الحضة وهو أبل درن المتصل من أقصى المغرب إلى قبلة برقة‏.‏يعمر ذلك الجبل في محاذاة الزاب من غربيه بقايا عمرت من زناتة ويتصل من شرقيه بجبل أوراس المطل على بسكرة المعترض في ذلك البسيط من القبلة إلى الشمال وهو جبل مشهور الذكر يأتي الخبر عن بعض ساكنيه‏.‏وهذا الزاب وطن كبير يشتمل على قرى‏.‏متعددة متجاورة جمعاً جمعاً يعرف كل واحد منها بالزاب‏.‏وأولها زاب الدوسن ثم زاب طولقة ثم زاب مليلة وزاب سرة وزاب تهودا وزاب بادس‏.‏وبسكرة أم هذه القرى كلها وكانت مشيختها في القديم بعد الأغالبة والشيعة لعهد صنهاجة ملوك القلعة في بني رمان من أهلها بما كثروا ساكنها وملكوا عامة ضياعها‏.‏كان لجعفر بن أبي رمان منهم صيت وشهرة‏.‏وربما نقضوا الطاعة لعهد بلكين بن محمد بن حماد صاحب القلعة في سني خمسين وأربعمائة وضبطوا البلد وامتنعوا‏.‏وتولى كبر ذلك جعفر بن أبي رمانة ونازلتهم جيوش صنهاجة إلى نظر الوزير خلف بن آبي حيدرة من صنائع الدولة فاقتحمها عليهم واحتملهم إلى القلعة فقتلهم بلكين جميعاً وجعلهم عظة لمن بعدهم‏.‏وأصار أمر الشورى لبني سندي من أهلها‏.‏وكان لعروس منهم بعد ذلك خلوص في الطاعة وانحياش إلى الدولة على حين تقلص ظلها وفشل ريحها وألوى الهرم بشبابها‏.‏وهو الذي فتك بالمنتصر بن خزرون الزناتي عند وصوله من المشرق واجتلابه على السلطان بقومه من مغراوه وأعراب الأثبج وبني عدي من بني هلال فمكر به السلطان وأقطعه ضواحي الزاب وريغة طعمة‏.‏ودس إلى عروس في الفتك به ففعل كما قدمنا ذكره في أخبار آل حماد‏.‏وانقرضت رئاسة بني سندي بانقراض أمراء صنهاجة من إفريقية‏.‏وجاءت دولة الموحدين والكثرة والبيت لبني رمان‏.‏وكان بنو مزني لفقاً من لفائق الأعراب وصلوا إلى إفريقية أحلافاً لطوالع بني هلال بن عامر في المائة الخامسة كما قدمنا‏.‏ونسبهم بزعمهم في مازن من فزارة والصحيح أنهم في لطيف من الأثبج‏.‏ثم من بني جرى بن علوان بن محمد بن لقمان بن خليفة بن لطيف واسم أبيهم مزنة بن ديفل بن محيا بن جرى هكذا تلقيته من بعض نسابة الهلاليين وشهد لذلك الوطن فإن أهل الزاب كلهم من أفاريق الأثبج عجزوا عن الظعن ونزلوا قراه على من كان بها قبلهم من زناتة وطوالع الفتح‏.‏وإنما يرعون عن هذا النسب فزارة لما صار إليه أهل الأثبج بالزاب من المغرم والوضائع فيستنكفون لذلك وينتسبون إلى غرائب الأنساب‏.‏وكان أول نزلهم بقرية من قرى بسكرة كانت تعرف بقرية حياس‏.‏ثم عفوا وتأثلوا وأخذوا مع أهل بسكرة بحظ وافر في تملك العقار والمياه‏.‏ثم انتقلوا إلى البلد واستمتعوا منها بالمنزل والظلال وقاسموا أهلها في الحلو والمر وانتظم كبارهم في أرباب الشورى من المشيخة‏.‏ثم استنكف بنو رمان من انتظامهم معهم وحسدوهم ما آتاهم الله من فضله وحذروهم على أنفسهم فاضطرمت بينهم نار العداوة والإحن كان أولها الكلام والترافع إلى سدة السلطان بتونس على حين استقلال أبي حفص بإفريقية ولعهد الأمير أبي زكرياء وابنه السلطان المستنصر‏.‏ثم تناجزوا الحرب وتواقعوا سكك المدينة وكانت صاغية الدولة مع بني رمان لقديمهم في البلد‏.‏ولما خرج الأمير أبو إسحاق على أخيه محمد المستنصر لأول بيعته ولحق بالدواودة من العرب وبايع له موسى بن محمد بن مسعود البلط أمير البدو يومئذ واعتمل به بسكرة وبلاد الزاب وأناخ عليها بكلكله كما قدمناه‏.‏قام يومئذ فضل بن علي بن أحمد بن الحسن بن علي بن مزني بدعوته وأعلن بين أهل البلد بطاعته واتبعوه على كره‏.‏ثم عاجلتهم عساكر السلطان وأجهضتهم عن الزاب فاعتلق فضل بن علي به واستمسك بذيله وصحبه في طريقه إلى الأندلس وبدار غربته منها إلى أن هلك المستنصر أخوه‏.‏وهيأ الله له من أمر الخلافة ما هيأ حسبما ذكرناه‏.‏ولما تم أمره واقتعد بتونس كرسي خلافته عقد لفضل بن علي على الزاب ولأخيه عبد الواحد على بلد الجريد رعياً لذمة خدمتهما وذكراً لائتلافهما في المنزل الخشن وصحبتهما فقدم والياً على الزاب ودخل بسكرة واستكان بنو رمان لصولته وانقادوا في مرضاة الدولة إلى أمره فلم ينبسوا بكلمة في شأنه واضطلع بتلك الولاية ما شاء الله‏.‏ثم كان شأن الدعي ابن أبي عمارة وتلبيسه ومهلك السلطان أبي إسحاق على يده‏.‏ثم ثار منه السلطان أبو حفص بأخيه واسترجع ما ضاع من ملكهم وكل منهم يثق بغنائه ويعول في أمر الزاب على كفايته‏.‏وسيم أعداؤه بنو رمان أيام ولايته فداخلوا أولاد حريز من لطيف أحد بطون الأثابج كانوا نزلوا بقرية ماشاش لصق المدينة حين عجزوا عن الطعن وخالطوا أهل البلد في أحوالهم وامتزجوا معهم بالنسب والصهر فأغروهم بفضل بن علي أن يكون التقدم لهم في الفتك به وتناول الأمر من يده وأن يخربوا بيوتهم من قرية ماشاش بأيديهم ليسكنوا إليهم ويطمئنوا إلى ولايتهم حلفاً عقدوه على المكر بهم‏.‏ولما أوقعوا به بظاهر البلد في بعض أيام ركوبه سنة ثلاث وثمانين ونزلوا من أمر الزاب ما كان يتولاه تنكر لهم بنو رمان لحولين من ذلك الحلف ونابذوهم العهد فخرجوا عن البلد وفقدوا المأوى للتمرس بها من قريب فتفرقوا في بلد ريغة‏.‏واستبد بنو رمان بشورى بسكرة والزاب منتقضين عليهم وعلى السلطان والدواودة قد تغلبوا عليه وعلى بلاد الحضنة من ورائه نقاوس ومقرة والمسيلة‏.‏وكان منصور بن فضل بن علي عند مهلك أبيه بالحضرة في بعض شؤونه فلما هلك أبوه واستبد بنو رفان بعده بثوا السعايات فيه إلى السلطان بالحضرة فأنجحت وتقبض عليه واعتقل أيام السلطان أبي ولما تغلب المولى أبو زكرياء يحيى ابن الأمير أبي إسحاق على بجاية وقسطنطينة وبونة واستقل بأمرها وانقسمت دولة آل أبي حفص بملكه ذلك منها تمسك أهل الزاب بدعوة صاحب الحضرة المولى أبي حفص وفر منصور بن فضل بن علي من محبسه بتونس ولحق ببجاية بعهد مهلك الحاجب القائم بالأمر أبي الحسين بن سيد الناس وتولية السلطان أبي زكرياء مكانه كاتبه أبا القاسم بن أبي يحيى سنة إحدى وتسعين وستمائة فلازم خدمته وخف عليه وصانعه بوجوه التحف وضمن له تحويل الدعوة بالزاب لسلطانه وتسريب أمواله وجبايته إليه واستماله بذلك فعقد له على الزاب وأمده بعسكر فنازل بسكرة‏.‏ووفد أهلها بنو رمان على السلطان ببجاية ببيعتهم فرجعهم على الأعقاب إلى عاملهم منصور وكتب إليه بقبول فيئتهم فدخل البلد سنة ثلاث وتسعين وكادهم في بناء القصر لشيعته وتحصن العسكر بسوره‏.‏ثم نابذهم العهد وثار بهم وأجلاهم عن البلد واستمكن فيه ورسخت قدم إمارته واستدر جباية السلطان واتسع له نطاق العمالة فاستضاف إلى عمل الزاب جبل أوراس وقرى ريغة وبلاد واركلي وقرى الحضنة‏:‏ مقرة ونقاوس والمسيلة‏.‏فعقد له السلطان على جميعها ودفعه إلى مزاحمة العرب في جبايتها وانتهاش لحومها إذ كانوا قد غلبوا على سائر الضواحي فساهمهم في جبايتها حتى كاد يغلبهم عليها‏.‏ووفر أموال الدولة وأنمى الخراج وصانع رجال السلطان فألقوا عليه بالمحبة وجذبوا بضبعه إلى أقصى مراتب الاصطناع فأثرى واحتجن الأموال ووشجت عروق رياسته ببسكرة ورسخت منابت عزه‏.‏وهلك المولى أبو زكرياء الأوسط على رأس المائة السابعة وولوا مكانه ابنه الأمير أبا البقاء خالد كما قدمناه وقام بأمره حاجبه أبو عبد الرحمن بن غمر‏.‏وكان لمنصور بن فضل هذا اختصاص به واعتلاق بيد جاهه فاستنام إليه وعول في سائر الضواحي من ممالك السلطان على نظره وعقد له على بلاد التل من أرض سدويكش وعياض فاستضافها إلى عمله وجرد عن ساعد كفايته في جبايتها فلقح عقيمها وتفجرت ينابيعها‏.‏ثم حدث بينه وبين الدولة منافرة وأجلب على قسطنطينة بيحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحاق جأجأ به تلمسان وبايع له واستأنف الدواودة لمشايعته ونازل به قسطنطينة ثم اطلع على كامن صدره فيه وما طوى عليه من التربص به فحل عقدته ولحق بعسكره ببسكرة وراجع الطاعة‏.‏ولحق به يحيى بن خالد فاعتقله إلى أن هلك سنة عشرين وكانت بينه وبين المرابطين أهل السنة من العرب أتباع سعادة المشهور الذكر فتن وحروب طالبوه بترك المغارم والمكوس تخفيفاً عن الرعية وعملا بالسنة التي كانوا ملتزمين لطريقها ونازلوه من أجل ذلك ببسكرة مراراً‏.‏ثم هلك سعادة في بعض حروبه على مليلى كما مر في ذكره سنة خمسين وسبعمائة‏.‏وجمع منصور بن مزني للمرابطين وبعث عسكره يقوده ابنه علي بن منصور مع علي بن أحمد شيخ الدواودة وعلى المرابطين أبو يحيى بن أحمد أخوه ومعه رجالات المرابطين مثل‏:‏ عيسى بن يحيى بن إدريس شيخ أولاد عساكر وعطية بن سليمان بن سباع وحسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة فهزموا عسكر ابن مزني وقتلوا ابنه علياً وتقبضوا على علي بن أحمد ثم منوا عليه وأطلقوه‏.‏ورجعوا إلى بسكرة فنازلوها وقطعوا نخيلها‏.‏ثم عاودوه ثانية وثالثة‏.‏ولم يزل الحرب بينه وبين هؤلاء المرابطين سائر أيامه‏.‏وكان الحاجب ابن غمر قد استخلصه لنفسه وأحله محل الثقة بخلته والاستقامة إلى صفائه‏.‏

ولما نهض السلطان أبو البقاء إلى تونس صحبه الحاجب في جملته حتى إذا أعمل المكيدة في الانصراف عن السلطان شاركه في تدبيرها إلى أن تمت كما قدمناه‏.‏ورجع الحاجب إلى قسطنطينة وصرفه إلى مكان عمله من الزاب‏.‏وكان يتردد إليه ببجاية للزيارة والمطالعة في أعماله إلى أن غمر به العرب في بعض طرقه إليها‏.‏وتقبض عليه من أمراء الدواودة علي بن أحمد بن عمر بن محمد بن مسعود وسليمان بن علي بن سباع بن يحيى بن مسعود على حين اجتذبا حبل الإمارة من يد عثمان بن سباع بن شبل بن موسى بن محمد واقتسما رياسة الدواودة قومهما فاستمكنا من هذا العامل منصور بن فضل في مرجعه من عمله ببلاد سدويكش وأوثقوه اعتقالاً وهموا بقتله فافتدى منهم بخمسة قناطير من الذهب وارتاشوا بمكسوبهم وصرفوا في وجوه رياستهم إنفاقها‏.‏وقبض منصور بن فضل عنانه عن السفر بعدها إلا في الأحايين‏.‏وبعد أخذ الرهن من العرب إلى أن كانت حركة مولانا السلطان أبي يحيى إلى تونس سنة سبع عشرة أول حركاته إليها وطالب حاجبه يعقوب بن غمر وهو بثغر بجاية بالأموال للنفقات والاعطيات فبعث إليه بمنصور بن فضل وأشار بعقده له على حجابته ليقوم بأمره ويكفيه مهمات شؤونه‏.‏واعتدها منصور على ابن غمر فساء ظنه وتنكر له ابن غمر وحالت صبغة وده وانكفأ السلطان من حركته تلك مخفق السعي بعد أن نزل ظاهر تونس بعساكره كما قدمناه‏.‏ولما احتل بقسطنطينة بدت له من يعقوب بن غمر صاحب الثغر مخايل الامتناع فأقصر عن اللحاق به وترددت بينهما الرسل وبعث له ابن غمر في منصور بن فضل‏.‏ونذر منه بالشر فأجاب داعيه وصحب قائد السلطان يومئذ محمد بن أبي الحسين بن سيد الناس إليه حتى إذا كان ببعض الطريق عدل إلى بلده وهم به القائد فأجاره أولياؤه من العرب‏:‏ عثمان بن الناصر شيخ أولاد حربي ويعقوب بن إدريس شيخ أولاد خنفر ومن معهم من ذويهم‏.‏ولحق ببسكرة وبلغ الخبرإلى ابن غمر فقرع سن الندم عليه وشايع منصور بن مزني عدوهم صاحب تلمسان أبا تاشفين ودخل في دعوته وأوفد ابنه يوسف عليه بالطاعة والهدية‏.‏وملك السلطان خلال ذلك تونس وسائر بلاد إفريقية‏.‏وهلك ابن غمر سنة تسع عشرة ولم يزل منصور بن مزني ممتنعاً سائر أيامه على الدولة والعساكر من بجاية تتردد لمنازلته إلى أن هلك سنة خمس وعشرين وسبعمائة وقام بأمره من بعده ابنه عبد الواحد فعقد له السلطان على عمل أبيه بالزاب واستضاف إليه ما وراءه من البلاد الصحراوية‏:‏ قرى ريغة وواركلي‏.‏وكان السلطان قد عقد على الثغر بعد مهلك ابن غمر لمحمد بن أبي الحسين بن سيد الناس وجعل له كفالة ابنه يحيى ودفعه إليه فتجددت الوحشة بين عبد الواحد هذا وبين صاحب الثغر في سبيل المنافسة في المرتبة عند السلطان لما كانوا جميعاً صنائع وبطانة للحاجب ابن غمر‏.‏وبعث العساكر لحربه ومنازلة حصنه‏.‏وناول عبد الواحد هذا لآل زيان مخانقي الدولة طرفاً من حبل طاعته تقبل فيها مذهب أبيه آخر عمره‏.‏وطال تمرس الجيوش به إلى أن استجن منه عبد الواحد بصهر عقد له على ابنته واشتراط المهادنة وتسليم الجباية وتودع أمره إلى أن اغتاله أخوه يوسف سنة تسع وعشرين بمداخلة بطانتهم من بني سماط وبني أبي كواية‏.‏ولما أحكم مداخلتهم آذنه عشاء للشورى معه في بعض المهمات وطعنه بخنجره فأشواه وهلك لحينه‏.‏واستقل يوسف بن منصور بإمارة الزاب ووصله مرسوم السلطان بالتقليد والخلع على العادة وأجرى الرسم في الدعاء له على منابر عمله‏.‏وكان السلطان قد استدعى محمد بن سيد الناس من الثغر لحجابته وفوض له أمور مهلكه فلهجت نار العداوة والإحن القديمة ما بينه وبين يوسف بن منصور عامل الزاب وهم به لولا ما أخذ بحجزته من الشغل الشاغل للدولة بتحيف آل زيان وهلك الحاجب سنة اثنتين وثلاثين في نكبة السلطان إياه كما ذكرناه وعقد لمحمد بن الحكيم على القيادة وجعل بيده زمام العساكر وفوض له في سائر القرى والضواحي فأجره وسنه وحكمه في دولته وتغلب على أمره حين فرغ السلطان من الشغل بمدافعة عدوه وحط ما كان من إصرهم على كاهل دولته‏.‏ونهض السلطان أبو الحسن إلى يغفراسن فقدم أظفار أعدائهم وفل شبا عزائمهم كما شرحناه قبل فأذكى القائد محمد بن الحكيم مع يوسف بن منصور نار العداوة‏.‏وأثار له من السلطان كامن الحفيظة وصرف وجوه العزائم إلى حمله على الجادة وتقويمه عن المراوغة في الطاعة وناهضه بالعساكر مرات ثلاثاً يدافعه في كلها بتسليم الجباية إليه‏.‏ثم كانت بينه وبين علي بن أحمد كبير الدواودة فتن وحروب دعا إليها منافسة علي في استئثاره بمال الجباية دونه فواضعه الحرب ودعا العرب إلى منازلته مموهاً بالدعاء إلى السنة وحشد أهل ريغ لذلك ونازله وانحرف عنه ابنه يعقوب ودخل إلى بسكرة فأصهر له ابن مزني في أخته بنت منصور بن فضل‏.‏وعقد له عليها فحسن دفاعه عنه وبعث ابن مزني عن سليمان بن علي كبير أولاد سباع وقريع علي بن أحمد في شوله فكان عنده ببسكرة يغاديه القتال ويراوحه إلى أن امتنع ابن مزني‏.‏ورحل علي ابن أحمد بن بسكرة وصار مع ابن مزني إلى الاتفاق والمهادنة أعوام الأربعين من المائة الثامنة‏.‏ثم كانت غزاة القائد ابن الحكيم إليه نهض من إفريقية بعد أن نازل بلاد الجريد واقتضى طاعتهم ومغارمهم واسترهن ولد ابن يملول ثم ارتحل إلى الزاب في جنوده ومعه العرب من سليم فأجفل بالزاب ونزل بلد أوماش من قراه وفرت العرب من الدواودة وسائر رياح أمامه ودافعه يوسف بن مزني بهديته دفعها إليه وهو بمكانه من أوماش‏.‏وارتحل عنه إلى بلاد ريغ فافتتح تقرت معقلهم واستباحها ودوخ سائر أعماله‏.‏ورجع إلى تونس ونكب السلطان قائده محمد بن الحكيم هذا سنة أربع وأربعين وولى ابنه أبا حفص عمر‏.‏وخشي الحاجب أبو محمد بن تافراكين بادرة بطانته فلحق بملك المغرب المرهوب الشبا المطل على الممالك يعسوب القبائل والعشائر أبي الحسن وأغراه بملك إفريقية واستجره إليها فنهض في الأمم العريضة سنة ثمان وأربعين كما ذكرنا ذلك كله من قبل‏.‏ووفد عليه يوسف بن منصور أمير الزاب بمعسكره من بني حسن فلقاه براً وترحيباً واستتبعه في جملته إلى قسطنطينة‏.‏ثم عقد له عنى الزاب وما وراءه من قرى ريغة وواركلي وصرفه إلى عمالته‏.‏واستقبل تونس وأمره برفع الجباية إليه مع العمال القادمين من أقصى المغرب على رأس الحول فاستعد لذلك حتى إذا سمع بوصولهم من المغرب لحقهم بقسطنطينة وفجأهم هنالك جميعاً

  الخبر بنكبة السلطان على القيروان

كما ذكرناه فاعتزم على اللحاق ببلاده‏.‏واعصوصب عليه يعقوب بن علي بن أحمد أمير البدو بالناحية القريبة من إفريقية لأزمة صهر كانت بينهما ومخالصة‏.‏وتحيز إليهم من كان بقسطنطينة من أولياء السلطان وحاشيته وعماله ورسل الطاغية والسودان الوافدين مع ابنه عبد الله من أصاغر بنيه أواهم يوسف بن منصور جميعاً إليه وأنزلهم ببلده وكفاهم مهماتهم شهوراً من الدهر حتى خلص السلطان من القيروان إلى تونس ولحقوا به مع يعقوب بن علي فكانت تلك يداً اتخذها يوسف بن يعقوب عند السلطان أبي الحسن وبنيه باقي الأيام‏.‏ثم أتبع ذلك بمخالفة رؤساء النواحي من إفريقية جميعاً في الانتقاض عليه وأقام متمسكاً بطاعته يسرب الأموال إليه بتونس وبالجزائر عند خلوصه إليها من النكبة البحرية كما سنذكره ويدعو له على منابره بعد تقويضه عن الجزائر إلى المغرب الأقصى لاسترجاع ملكه إلى أن هلك السلطان أبو الحسن بجبل هنتاتة من أقصى المغرب سنة اثنتين وخمسين واستقام أمر الدولة المرينية الحية الذكر لابنه السلطان أبي عنان ولما استضاف إلى ملكه ملك تلمسان ومحا ما جدده بنو عبد الواد من رسوم ملكهم وجمع كلمة زناتة وأطل على البلاد الشرقية سنة ثلاث وخمسين بادر يوسف بن منصور بطاعته فأتاها طواعية وأوفد على السلطان رسله بكتاب بيعته‏.‏ثم أوفد عليه ثانياً مع حاجبه الكاتب أبي عبد الله محمد بن أبي عمر وبعثه بالعساكر لتدويخ إفريقية وتمهيد ملكه ببجاية كما سنذكره‏.‏وأوفد عليه أمراء القبائل والبدو ورؤساء النواحي سنة أربع وخمسين ووفد في جملتهم يوسد بن منصور أمير الزاب ويعقوب بن علي أمير البدو وسائر الدواودة فلقاه السلطان تكرمة ورعياً لأزمة خلوصهم لأبيه وقومه من بين أهل إفريقية وأسنى جوائزهم‏.‏وعقد ليوسف بن مزني على الزاب وما وراءه من بلاد ريغة وواركلي على عادته وانقلب محبواً محبوراً‏.‏وقد ثبت له من ولاية السلطان ومخالطته حظ ورفع له ببساطه مجلس‏.‏ولما نهض السلطان إلى إفريقية لافتتاح قسطنطينة سنة ثمان وخمسين كما سنذكره تلقاه يوسف بن منصور على قسطنطينة فخلطه بأوليائه ونظمه في طبقات وزرائه‏.‏واستوحش يعقوب بن علي يومئذ من مطالبته بالرهن له ولقومه وانتقض وأجفلت أحياؤه إلى بلاد الزاب‏.‏وخرب بلاد يعقوب بن علي بالزاب والتل بقطع شجرائها وبغور مياهها وبهدم بنائها وبنسف آثارها‏.‏ودخل يعقوب بأحيائه الرمل وأعجزوا السلطان فانكفأ راجعاً واحتل بظاهر بسكرة فتلوم بها ثلاثاً لإراحة العساكر وإزاحة عللهم من وعثاء السفر وشعث الصحراء فغرب يوسف بن منصور في قرى عسكره أيام مقامه شملهم فيها من العلوفة والحنطة واللحمان والأدم بما أرغد عيشهم وكفاهم مهمهم‏.‏وتحدث بها الناس دهراً ورفع إليه جباية الزاب لعامه قناطير من الذهب دفعه ببيت المال فقبضه القهارمة من ثقاته وأجزل السلطان مثوبته وأسنى عطيته واختضه بكسوة ثيابه وعياله من كسى حرمه وثياب قصره‏.‏وانكفأ راجعاً إلى حضرته‏.‏ثم أوفد يوسف بن منصور ابنه أحمد على السلطان بسدته من فاس عند منصرف وزيره سليمان بن داود من حركة إفريقية سنة تسع وخمسين وأصحبه هدية من عتاق الخيل وفاره الرقيق‏.‏وأقام أياماً في نزل كريم ومحل من المجلس رفيع إلى أن هلك السلطان خاتمة تسع وخمسين فأرغد القائم بالدولة من بعده جائزته وأسنى صلته وصرفه إلى عمله واستوصى به أمراء النواحي والثغور في طريقه‏.‏ولم ينشب أن شئت نار الفتنة وانتزى الخوارج بالجهات بعد مهلك السلطان فخلص إلى أبيه بعد عناية وعلى يأس من النحاة بعد أن حصل في قبضة أبي حمو سلطان بني عبد الواد عند استيلائه على تلمسان وهو بها مع بني مرين وقد مر بهم مجازاً إلى وطنه فأجاره عليه صغير بن عامر شيخ بني عامر من زغبة رعياً لأزمة أبيه يوسف صاحب الزاب وتأميلاً للعرب فيه وفي أعماله‏.‏وبعد أن بذل له من يده ومن طرف ما وصله بنو مرين من ذخائرهم فبعث معه صغير ركاباً من قومه أبلغوه فكانت إحدى الغرائب في نجاته‏.‏واسترجع الموحدون ثغورهم‏:‏ بجاية وقسطنطينة من يد بني مرين وأزعجوا عنها العساكر المجمرة بها من قبائلهم كما قدمناه فراجع يوسف بن منصور طاعته المعروفة إلى أن هلك سنة سبع وستين ليوم عاشوراء وقام بأمره ابنه أحمد وجرى على سننه وهو لهذا العهد أمير على الزاب بمحل أبيه من إمارته متقبل في مذهبه وطريقه إلا أن خلق أبيه كان سخية وخلق هذا تلهوقا لما فيه من التحذلق وربك يخلق ما يشاء ويختار‏.‏وله ولد كبيرهم أبو يحيى من بنت محمد بن يملول أخت يحيى وهو لهذا العهد مرشح لمكانه‏.‏ولما حلت بهل الجريد الفاقرة ونزل به يحيى بن يملول المشؤوم على وطنه توجس الخيفة من السلطان وتوقع المطالبة بطاعة غير طاعته المعروفة فسرب الأموال العرب ومد يده إلى حبل صاحب تلمسان ليتمسك به فوجده قاصراً عنه‏.‏وأقام يقدم في أمره رجلا ويؤخر أخرى‏.‏ثم قذف الله نور الهداية في قلبه وأراه سنن رشده‏.‏وبادر إلى الاستقامة في الطاعة والعدول عن المراوغة ووصله وافد السلطان أبي العباس الموحدين أبو عبد الله بن أبي هلال وكشف له قناع المخالصة والانحياش وبعث معه وفده بهديته واستقامته وتقبله السلطان وأعاده إلى أحسن الأحوال من الرضا عنه والله متولي الأمور سبحانه‏.‏

  الخبر عن رياسة بني يملول بتوزر وبني الخلف بنفطة

وبني أبي منيع بالحامة زعيم هؤلاء الرؤساء ابن يملول صاحب توزر لاتساع بلده وتمدن مصره واحتلاله منها بأم القرى من قطره وهو يحيى بن محمد بن يملول‏.‏ونسبهم بزعمهم في طوالع العرب من تنوخ استقر أولوه بهذا الصقع منذ أول الفتح فعفوا وتأثلوا ووشجت به عروقهم نسباً وصهراً حتى انتظموا في بيوت الشورى المتقدمين للوفادة على الملوك وتلقي العمال القائمين من دار الخلافة والنظر في مصالح الكافة أيام آل حماد بالقلعة وآل عبد المؤمن بمراكش وآل أبي حفص بتونس‏:‏ مثل بني واطاس وبني فرقان وبني ماردة وبني عوض‏.‏وكان التقدم فيهم أيام عبيد الله الشيعي لابن فرقان وهو الذي أخرج أبا يزيد حين شعر أنه يروم القيام على أبي القاسم القائم وأيام آل حماد ليحيى بن واطاس وهو النازع بطاعة أهل قسطنطينة إليهم عن آل بلكين ملوك القيروان حين انقسمت دولة آل زيري وافترق أمرهم‏.‏ثم عادت الرياسة لبني فرقان لأول دولة الموحدين ومنهم كان الذي لقي عبد المؤمن وأتاه الطاعة عن نفسه وعن أهل بلده توزر فتقبله ووصله‏.‏وصار الأمر للموحدين فمحوا منها آثار المشيخة والاستبداد‏.‏ونشأ أحمد هذا الجد مترامياً إلى الرياسة بهذا القطر يدافع عنه بالراح ويزاحم بالمناكب من وجوه البلد وأشراف الوطن‏.‏وسعى به إلى شيخ الموحدين وقائد العسكر أيام السلطان أبي حفص محمد الفازاري فنكبه وصادره على مال امتحنه عليه‏.‏كانت أول نكباته التي أورت من زناده وأذكت من جمره فخلص إلى الحضرة يؤمل اقتعاد مطيته وثبوت مركزه من دار الخلافة فأوطنها أياماً يباكر أبواب الوزراء والخاصة ويلثم أطراف الأولياء والحاشية ويبذل كرائم ماله فيما يزلفه لديهم ويؤثره بعنايتهم حتى استعمل بديوان البحر مقعد العمال بمرفأ السفن لجباية الأعشار من تخار دار الحرب‏.‏ثم استضاف بما كان من غنائه فيها واضطلاعه سائر أعمال الحضرة فتقلدها زعيماً بإمضاء الجرايات وإدرار الجباية واستمرت على ذلك حاله وتضاعفت فائدته فأثرى واحتجن المال واستخلص الذخيرة قاطعاً لألسنة السعاية المصانعة والإتحاف بطرف ما يجلبه الروم من بضائعهم حتى أبطره الغنى ودلت على مكامنه الثروة ورفع أمره إلى الحاجب فخرج التوقيع بالقبض عليه واستصفاء ماله لعهد السلطان أبي يحيى اللحياني فنكب الثانية وصودر على مئتين من آلاف الدنانير وامتحن لها وباع فيها مكسوبه حتى من الكتب‏.‏وخلص من النكبة مثلوب الأمانة ممزق الأديم فقيد الرياش أحوج ما كان إلى ما يعوز عن الكن والدفء وبلالة العيش‏.‏ولحق ببلده ناجياً بالرمق ضارعاً للدهر‏.‏ودفعه الملأ إلى ما يستنكفون عنه من خدمة العمال ومباكرة أبوابهم والامتهان في ضروراتهم وأنجده في ذلك بخت جذب بضبعه‏.‏وكان في خلال ذلك شغل الحضرة شأن الثغور الغربية وأمرائها فتقلص ظل الدولة عن هؤلاء بعض الشيء وهملت الرعايا بالبلاد الجريدية وصار أمرها إلى الشورى التي كانت عليها قبل‏.‏فلما أدرك أحمد هذه الشورى التي كان يسمو لها سمو حباب الماء ثلج صدره وأنجح سعيه واستبد بمشيخة توزر‏.‏وهلك في أعوام ثماني عشرة فخلفه من بعده في سبيله تلك ولده يحيى طموحاً إلى المرتبة منافساً في الاستقلال‏.‏وزاحم بيوتات المصر بمناكب استوصلها سائر عمره من الدعار والأوغاد بمعاقرة الخمر والمجاراة في فنون الشباب ليستبد أمره والاستيلاء على نظرائه حتى تطارحوا في هوة المهلك بين قتيل ومغرب ومخيف العمران لم تعطفه عليهم عواطف الرحم ولا زجره وازع التقوى والسلطان حتى خلا له الجو واستوسق الأمر واستقر من أمر البلد والحل والعقد بأوفى من استبداد أبيه‏.‏وكان مهلكه قريباً من استبداده لخمس سنين فتلقف الكرة من يده أخوه تربه في الرياسة ومجاريه في مضمارها فأجرى إلى الغاية واقتعد كرسي الرياسة وعفا على آثار المشيخة‏.‏واستظهر على أمره بمصانعة أمراء البدو وأولاد أبي الليل والمتات إليهم بصهر كان عقده أبوه أحمد لأبي الليل جدهم على أخته أوعمته‏.‏فكانوا رداء له من الدولة فبعد صيته وعظم استيلاؤه وامتدت أيامه وعنى الملوك بخطابه وإسناد الأمور في تلك البلاد إليه خلال ما تعود الكرة وتهب ريح الدولة‏.‏وزحف إليه القائد محمد بن الحكيم سنة أربعين فلاذ منه بالطاعة والمصانعة بالمال ورهنه ولده يحيى فرجعه إليه ابن الحكيم وتقبل طاعته من غير رهن استقامة لما ابتلاه من خلوصه‏.‏وأقام على ذلك إلى أن هلك أعوام أربعة وأربعين من المائة الثامنة‏.‏وتصدى ولده عبد الله للقيام بالأمر فوثب عليه عمه أبو زيد بن أحمد فقتله على جدث أبيه صبح مواراته بعد أن كان أظهر الرضى به والتسليم له فثارت به العامة لحينه وكان مصرعهما واحداً‏.‏وقام بالأمر أخوه يملول بن أحمد أربعة أشهر كانت شر مدة وأسوأ ولاية لما أصاب الناس بسوء ملكته من سفك الدماء واستباحة الحرم واغتصاب الأموال حتى كان ينسب إلى الجنون مرة وإلى الكفر مرة أخرى فمرج أمرهم واستولى الضجر على نفوسهم‏.‏وكان أخوه أبو بكر معتقلا بالحضرة فراسله أهل توزر سراً وأطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذت عليه المواثيق بالطاعة والوفاء بالجباية فصمد إليها بمن في لفه من الأعراب وحشد نفزاوة المجاورين لها في القرى الظاهرة المقدرة السير وأجلب عليهم ثم بيتها فافتتحها‏.‏وبادر الناس إلى القبض على يملول أخيه وأمكنه منه فاعتقله بداره وتبرأ من دمه وأصبح لثالثة اعتقاله ميتاً بمحبسه‏.‏وكانت قفصة من قبل ذلك لما صار أمر الجريد إلى الشورى قد استبد بها يحيى بن محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد من بيوتها ونسبهم في زعمهم في بلى ولهم خلف بزعمهم في الشريد من بطون سليم‏.‏والله أعلم بأولية نزولهم بقفصة حتى التحموا بأهلها وانتظموا في بيوتاتها‏.‏وكانت البيوت بها بيت بني عبد الصمد وبيت بني أبي زيد وكانت رياسته لبعض بني أبي زيد لعهد الأمير أبي زكرياء الأعلى كان يستعمله على جباية أموال الجريد ثم سعى به أنه أصاب منها فنكبه وصودر على آلاف من المال فأعطاها وأقامت رياستهم متفرقة في هذه البيوتات‏.‏ولما حدثت العصبية بالبلد أيام صار أمر الجريد إلى الشورى كان بنو العابد هؤلاء أقوى عصبية من سائرهم واستبد بها كبيرهم يحيى بن علي‏.‏فلما فرغ السلطان من شغله بزناتة وجثم السلطان أبو الحسن على تلمسان يحاصرها‏.‏وأقبل السلطان على النظر في تمهيد ملكه وإصلاح ثغوره وافتتح أمره بغزو قفصة ونهض إليها سنة خمس وثلاثين في عساكره من الموحدين وطبقات الجند والأولياء من العرب فحاصرها شهراً أو نحوها وقطع نخيلها وضاق عنقهم بالحصار وتلاوموا في الطاعة‏.‏واستبقوا بها إلى السلطان وفر الكثير من بني العابد فلحقوا بقابس في جوار ابن مكي‏.‏ونزل أهل البلد على حكم السلطان فتقبل طاعتهم وأحسن التجاوز عنهم وبسط المعدلة فيهم وأحسب أمل ذوي الحاجات منهم وانكفأ راجعاً إلى حضرته بعد أن آثرهم بسكنى ولده المخصوص بعدئذ بعهده الأمير أبي العباس وأنزله بين ظهرانيهم وعقد له على بلاد الجريد واحتمل مقدم قفصة يحيى بن علي إلى الحضرة فلم يزل بها إلى أن هلك سنة ربع وأربعين وأستبد الأمير أبو العباس بأمر الجريد واستولى على نفطة كما قدمناه‏.‏وقتل بني خلف وهم‏:‏ مدافع وأبو بكر وعبد الله ومحمد وابنه أحمد بن محمد أخوة أربعة وابن أخيهم الخلف بن علي بن الخلف بن مدافع ونسبهم في غسان في طوالع العرب‏.‏وانتقل جدهم من بعض قرى نفزاوة إلى نفطة وتأثل بها وكان لبنيه بها بيت‏.‏واستبد هؤلاء الأخوة الأربعة أزمان الشورى كما قدمناه‏.‏ولما استولى السلطان أبو بكر على الجريد وأنزل ابنه أبا العباس بقفصة وعقد له على سائر أمصاره اقتضى طاعتهم فامتنعوا فسرح إليهم وزيره أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين‏.‏وجهزت له العساكر من الحضرة ونازلها وقطع نخلها فلاذ أهلها بالطاعة وأسلموا بني مدافع المتغلبين فضرب أعناقهم وصلبهم في جذوع النخل آية للمعتبرين‏.‏وأفلت السيف منهم علياً صغيرهم لذمة اعتدها له أبو القاسم بن عتو لنزوعه قبل الحادثة فكانت واقيته من الهلكة‏.‏واستولى الأمير أبو العباس على نفطة واستضافها إلى عمله‏.‏ثم مرض أبو بكر بن يملول في طاعته فنهض إليه السلطان أبو بكر من تونس سنة خمس وأربعين وكان الفتح كما قدمناه‏.‏ولحق أبو بكر بن يملول ببسكرة فلم يزل بها إلى أن أجلب على توزر فنبذ إليه يوسف بن مزني عهده وانتقل إلى حصون وادي ابن يملول المجاورة لتوزر وهلك سنة ست وأربعين‏.‏ثم كان مهلك السلطان وابنه الأمير أبي العباس صاحب الأعمال الجريدية إثر ذلك سنة سبع وأربعين ورجع إلى كل مصر من الجريد مقدموه فرجع أحمد بن العابد إلى قفصة من مكانه في جوار ابن مكي واستولى على بلده في مكان ابن عمه يحيى بن علي ورجع علي بن الخلف إلى نفطة واستبد بها ورجع يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول إلى توزر من مثوى اغترابه ببسكرة وارتحل إليها مع عمه أبي بكر طفلا فلما خلا الجديد من الإمارة درج يحيى هذا من عشه في جوار يوسف بن منصور بن مزني وأطلقه مع أولاد مهلهل من الكعوب بعد أن وصلهم وشارطهم واسترهن فيه أبناءهم فأوصلوه إلى محل رياسته بتوزر ونصبه شيعته وأولياء أبيه وقاموا بأمره‏.‏ورجع أمر الجريد كله إلى رياسة مقدمه كما كان‏.‏ثم وفدوا على السلطان أبي الحسن عند زحفه إلى إفريقية ولقوه بوهران فلقاهم مبرة وتكرمة ورجع كلاً إلى بلده ومحل رياسته بعد أن أسنى الجائزة ووفر الإسهام والأقطاع وأنفذ الصكوك والكتب‏:‏ فرجع إلى توزر يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول صبياً مغتلماً وإلى نفطة علي بن الخلف بن مدافع وإلى قفصة أحمد بن عمر بن العابد‏.‏وأنزل بكل واحد من هذه الأمصار عاملا وحامية‏.‏وعقد على الجريد كله لمسعود بن إبراهيم بن عيسى اليرنياني من طبقة وزرائه واستوصى لهؤلاء الرؤساء خيراً في جواره‏.‏حتى إذا كانت نكبة السلطان بالقيروان سنة تسع وأربعين وارتحل عامل الجريد مسعود بن إبراهيم يريد المغرب بمن معه من العمال والحامية ونمي خبره إلى الأعراب من كرفة فصبحوه في بعض مراحل سفره دون أرض الزاب فاستلحموه ومن كان معه من الحامية واستولوا على أبنيتهم وذخيرتهم وكراعهم واستبد رؤساء تلك البلاد بأمصارهم وعادوا إلى ديدنهم من التمريض وآذنوا بالدعاء لصاحب الحضرة منابرهم واستمروا على ذلك‏.‏فأما يحيى بن محمد بن يملول فنزع إلى مناغاة الملوك في الشارة والحجاب واتخاذ الآلة والبيت المقصور للصلاة واقتعاد الأريكة وخطاب التمويل‏.‏وفسح للمجون والعكوف على اللذات مجالا يرى أن جماع السياسة والملك في إدارة الكأس وافتراش الآس والحجبة عن الناس والتأله على الندمان والجلاس‏.‏وفتح مع ذلك على رعيته وأهل إيالته باب العسف والجور‏.‏وربما بيت مشاهيرهم غيلة فأتلف نفوسهم وامتد أمده في ذلك إلى أن استولى السلطان أبو العباس على إفريقية وكان من أمره ما نذكره‏.‏وأما جاره الجنب علي بن الخلف فلم يلبث لما استبد برياسته أن حج سنة أربع وستين والتزم مذاهب الخير وطرق الرضى والعدالة وهلك سنة خمس بعدها وولي مكانه ابنه محمد جارياً على سننه‏.‏ثم هلك لسنة من ولايته وقام بأمره أخوه عبد الله بن علي فأذكى سياسته وأيقظ حزمه وأرهف للناس حلى فنقموا عليه سيرته وسيموا عسفه واستمكن مناهضهم في الشرف ومحاذيهم في رياسة البلد القاضي محمد بن خلف الله من صاحب الحضرة بذمة كانت له في خدمة قديمة استعمله لرعيها في خطة القضاء بحضرته وآثره بالمكان منه والصحبة فسعى بعبد الله هذا عند الخليفة ودله على مكامن هلكته وبصره بعورات بلده‏.‏واقتاد عساكر السلطان إليه في زمامه‏.‏ولما احتل بظاهر البلد وعبد الله رئيسها أشد ما كان قوة وأكثر جمعاً وأمضى عزماً استألف أخوه الخلف بن علي بن الخلف جماعة المشيخة دونه وحرضهم عليه وداخل القاضي في تبييت البلد وأنه بالمرصاد في اقتحامها حتى إذا كانت الهيعة دس إلى بعض الأوغاد في قتل أخيه عبد الله ومكر بالقاضي والعسكر وامتنع عليهم واعتصم دونهم واستقل برياسة بلده وأقام على ذلك يناغي ابن يملول في سيره ويطارحه الكثير من مذاهبه ويجري في الشأو الذي بلغ إلى غايته وأوفى على ثنيته‏.‏وأما أحمد بن عمر بن العابد فلم يزل من لدن استبداده في قفصة سالكاً مسالك الخمول منحطاً عن رتب التكبير منتحلا مذاهب أهل الخير والعدالة في شارته وزيه ومركبه جانحاً إلى التقلل‏.‏فلما أوفى على شرف من العمر استبد عليه ابنه محمد وترفع عن حال أبيه بعض الشيء إلى مناغاة هؤلاء المترفين فبينما هؤلاء المتقدمون في هذه الحال من الاستبداد على السلطان والتخفق بأخلاق الملوك والتثاقل على الرعايا بالتعسف والجور واستحداث المكوس والضرائب إذا أطل على مفاحصهم السلطان أبو العباس الحضرة مستبداً بدعوته صارفاً إلى فتحها عزائمه فوجموا وتوجسوا الخيفة منه‏.‏وائتمروا في المظاهرة واتصال اليد بعد أن كانوا يستحثونه إلى الحضرة ويبعثون إليه بالانحياش على البعد زبوناً على صاحب الحضرة وتراوغاً عن مصدوقة الطاعة‏.‏فلما استبد السلطان أبو العباس بالدعوة استرابوا في أمرهم وسربوا أموالهم في الأعراب المخالفين على السلطان من الكعوب يؤملون مدافعتهم عنهم فشمر لها أولاد أبي الليل بما كان وقع بينهم وبين السلطان من النفرة‏.‏ونهض إليهم السلطان فغلبهم على ضواحي إفريقية وعلى الظواعن التي كانت جبايتها لهم من مرنجيزة كما قلناه واكتسحهم فأوهن بذلك من قوتهم‏.‏ثم زحف الثانية إلى أمصار الجريد فلاذوا بالامتناع فأناخ السلطان بعساكره وأوليائه من العرب أولاد مهلهل على قفصة فقاتلوها يوماً أو بعض يوم وغدا في ثانيه على خيلهم يقطعها فكأنما يقطع بذلك أمعاءهم فتبرأوا من مقدمهم وشعر بذلك فبادر إلى السلطان ونزل على حكمه فتقبض عليه وعلى ابنه شهر ذي القعدة من سنة ثمانين وتملك البلد واستولى على ديار ابن العابد بما فيها‏.‏وكان شيئاً لا يعبر عنه لطول أيامه في الولاية وكثرة احتجانه للأموال‏.‏وعقد السلطان على قفصة لابنه أبي بكر وارتحل يريد توزر وطار الخبر لابن يملول في توزر فقوض عنها بأهله ونزل على أحياء مرداس وسرب فيهم المال فرحلوا معه إلى الزاب ولحق ببسكرة مأوى نكباته ومنتهى مفره فنزل بها على أحمد بن يوسف بن مزني وأقام هنالك على قلعة من توقع مطالبة السلطان له ولجاره ابن مزني وخسارة أموالهم في زبون العرب وسوء المغبة إلى أن هلك لسنة أو نحوها‏.‏وائتمر أهل توزر بعد تقويضه عنهم وبعثوا إلى السلطان ببيعتهم فلقيته أثناء طريقه وتقدم إلى البلد فنزل بقصور ابن يملول واستولى على ذخيرته وتبرأ إليه أهل البلد من ودائع كانت له عندهم من خالص الذخيرة فرفعوها إلى السلطان‏.‏وعقد لابنه المنتصر على توزر واستقدم الخلف بن الخلف من نفطة وكان يخالف أصحابه إلى الطاعة متى نقضوها زبوناً على يملول وسالفة من العداوة كان يتقبلها‏.‏فلما أحيط بهم أدركه الدهش بطاعته فأتاها وقدم عليه فتقبل السلطان ظاهره وأغضى له عن غيرها طمعاً في استصلاحه وعقد له على حجابة ابنه المنتصر وأنزله معه بتوزر وأمره بالاستخلاف على بلده نفطة وعقد له على ولايتها وانكفأ راجعاً إلى الحضرة وقدم ابن الخلف على أمره ورأى أنه قد تورط في الهلكة فراسل ابن يملول بمكانه من توزر وعثر أولياء السلطان على كتابه إلى يعقوب بن علي شيخ رياح ومدره حروبهم على صريخ ابن يملول ومعونته فعلموا نكثه ومداجاته وبادروا إلى التقبض عليه وولوا على نفطة من قبلهم وخاطبوا السلطان بالشأن وأقام في اعتقاله إلى أن كانت حادثة قافصة وكان من خبر قفصة أن ابن أبي زيد من مشيختها كان نزع إلى السلطان قبل فتحها هو وأخوه لمنافسة بينهما وبين ابن العابد وهما‏:‏ محمد وأحمد ابنا عبد العزيز بن عبد الله بن أحمد بن علي بن عمر بن أبي زيد‏.‏وقد ذكرنا أوليتهم واستعمال سلفهم أيام الأمير أبي زكرياء الأعلى في جباية الجريد‏.‏فلما استولى على البلد رعى لهما تشيعهما وبدارهما إلى طاعته مع قديمهما فأنزلهما مع ابنهما بقفصة وكبيرهما رديف لحاجبه عبد الله من الموالي الأتراك ومدبر لأمور البلد في طاعة السلطان‏.‏ثم نزغ الشيطان في صدره وحدثته نفسه بالاستبداد وأقام يتحين له الفرص‏.‏وذهب الأمير أبو بكر إلى زيارة أخيه بتوزر فكاده في التخلف عنه وجمع أوشاباً من الغوغاء والزعانف وتقدم بهم إلى القصبة للفتك بعبد الله التريكي ونذر بذلك فأغلق أبواب القصبة وبعث الصريخ في أهل القرى وقاتلهم ساعة من نهار حتى وافى إليه المدد‏.‏فلما استغلظ بمدده أدركهم الدهش وانفض الأشرار من حولهم ولجأوا إلى الاختفاء في بيوت البلد وتقبض على الكثير ممن داخلهم في الثورة ووصل الخبر إلى الأمير أبي بكر بتوزر فبادر إلى مكانه وقد سكنت الهيعة فاستلحم جميع من تقبض عليه حاجبه وناس في الناس بالبراءة من أبي زيد فتبرأوا منه‏.‏وعثر الحرس عليه وعلى أخيه خارجين من أبواب البلد في زي النساء فقادهما إليه فقتلهما بعد أن مثل بهما‏.‏وبادر المولى المنتصر بتوزر لقتل الخلف بن الخلف أن يخوض في مثلها فذهب في غير مرحمة لم يعطف عليه رحم ولا تكنه سماء ولا أرض‏.‏واستبد السلطان بالجريد ومحا منه آثار المشيخة وعفا عليها وانتظمه في عمالات السلطان‏.‏وأما بلد الحامة وهي من عمالات قسطيلية وتعرف بحامة قابس وحامة مطماطة نسبة إلى أهلها الموطنين كانوا بها من البربر وهم فيما يقال الذين اختطوها وأما الآن ففيها ثلاث قبائل من توجن وبني ورياجن وهم في العصبية فرقتان‏:‏ أولاد يوسف ورياستهم في أولاد أبي منيع وأولاد جحاف ورياسهم في أولاد وشاح ولا أدري كيف نسب لفرقتين‏.‏فأما بنو أبي منيع فالحديث عن رياستهم في قومهم أن جدهم رجا بن يوسف كان له ثلاثة من الولد وهم‏:‏ بوساك ويحمد وملالت وأن رئاسته بعده كانت لابنه بوساك ثم ابنه أبي منيع من بعده ثم لابنه حسن بن أبي منيع ثم لابنه محمد بن حسن ثم لأخيه موسى بن حسن ثم لأخيهما ابن علان إلى أن كان ما نذكر‏.‏وأما أولاد جحاف فكانت أول رياستهم لمحمد بن أحمد بن وشاح وقبله خاله القاضي عمر بن كلى‏.‏وكان العمال من الحضرة يتعاقبون فيهم إلى أن أسقط السلطان عنهم الخراج والمغارم بأمرها‏.‏وكان مقدمهم لأول دولة السلطان أبي بكر من أولاد أبي منيع وهو موسى بن حسن‏.‏وكان المديوني قائد السلطان والياً عليهم وارتاب بهم بعض الأيام وأحبوا الثورة به فدس بها إلى السلطان في بعض حركاته وغزاهم بنفسه ففروا وأدرك سبعة من أولاد يوسف هؤلاء وتقبض عليهم فقتلوا‏.‏ثم رجع الأمر وولي موسى بن حسن‏.‏ولما هلك ولي بعده أخوه أبو علان وطال أمد ولايته عليهم وكان منسوباً إلى الخير والعفاف‏.‏وهلك سنة اثنتين وأربعين وولي بعده ابنه عمر ثم ابنه الآخر أبو زيان‏.‏ثم ولي بعدهما ابن عمهما مولاهم ابن محمد‏.‏ووفد على السلطان أبي الحسن مع وفد أهل الجريد كما مر‏.‏ثم هلك فولي بعده من بني عمهم حسان بن هجرس وثار به محمد بن أحمد بن وشاح من أولاد جحاف المذكوا فعزله وأقام في ولايتها إلى سنة ثمان وسبعين فثار به أهل الحامة وقتلوا عمر بن كلى القاضي وولوا عليهم حسان بن هجرس واليهم‏.‏ثم ثار به يوسف واعتقله وهو يوسف بن عبد الملك بن حجاج بن يوسف بن وشاح وهو الآن مقدمها يعطي طاعة معروفة ويستدعي العامل في الجباية ويراوغ عن المصدوقة والغلب والاستيلاء وقد أحاط به من كل جهة‏.‏وأملى علي بعض نسابتهم أن مشيخة أهل الحامة في بني بوساك ثم في بني تامل بن بوساك‏.‏وأن تامل أول من رأس عليهم وأن وشاحاً من ولد تامل وأن بني وشاح على فرقتين‏:‏ بنو حسن وبنو يوسف فحسان بن هجرس ومولاهم وعمر وأبو علان كلهم من بني حسن ومحمد بن أحمد بن وشاح من بني يوسف وهذا مخالف للأول والله أعلم بالصحيح في أمرهم‏.‏فأما نفزا وأعمال قسطيلية وتنسب لهذا العهد إلى توزر وهي القرى العديدة المقدرة السير يعترض بينها وبين توزر إلى القبلة عنها السبخة المشهورة المانعة من الاعتساف إلا معالم قائمة من الخشب يهتدي بها السالك وربما يضل خائضها فتبتلعه‏.‏ويسكن هذه القرى قوم من بقايا نفزاوة من البرابرة البتر أبقوا هنالك بعد انقراض جمهورهم وتحيف العرب لسائر بطون البربر ومعهم معاهدون من الفرنجة ينسبون إلى سردانية نزلوا على الذمة والجزية وبها الآن أعقابهم ثم نزل عليهم من عرب الشريد وزغب من بني سليم كل من عجز عن الظعن وملكوا بها العقار والمياه وكثروا نفزاوة وهم لهذا العهد عامة أهلها وليس في نفزاوه هذه رياسة لصغرها ورجوعها في الغالب إلى أعمال توزر ورياستها‏.‏هذا حال للمتقدمين ببلاد الجريد في الدولة الحفصية أوردنا أخبارهم فيها لأنهم من صنائعها وفي عداد ولايتها ومواليها والله متولي الأمور‏.‏